top of page

بابون أو مكاك


يوتام فلدمان


عوّدت التّربية الواقعيّة المشاهِد المُعاصر على دمج الشّخصيّة بالرّوح بالمعنى النّفسيّ – أي كرُزمة من الدّوافع، والتّعقيدات، والرّغبات، والمخاوف التي تُنتِج السّيرة الذّاتيّة. لقد دُرِّب المُشاهد على البحث في وجه الشّخصيّة المُصوَّرة وجسدها عن تقاسيم وندبات نقَشَها الماضي، وعن أدلّة تنبثق من أعماق العالم الدّاخليّ للشّخصيّة لتطفو إلى سطح البشرة الخارجيّة.

ليس الأمر كذلك في أعمال شاي إغناتس. الأشخاص الذين يصوّرهم إغناتس، وهم رجال بغالبيّتهم، معدومو الرّوح ومعزولون عن سيرتهم الحياتيّة. لقد جاءوا إلى العالم من رحم الفنتازيا، لا من اللّحم والدّم؛ ليسوا نتاج ولادة، ونموّ، وتطوّر، بل هم انعكاس لصورة حلم ثابت لا يتغيّر؛ حلم حول حياة الإنسان الأوّل في جنّة عدن أو فنتازيا جنسيّة ملوّثة، تتبلور تلقائيًّا في ذهن المُستمني المشبَع بالهذيان.

قد يكون الأشخاص الذين يصوّرهم إغناتس راقصين، أو راقصي تعرٍّ، أو ممثّلي أفلام إباحيّة – أشخاص يعلنون كينونتهم بأكملها، فتتجلّى لأعين المشاهد. كلّ خطّ وخطّ في أجسادهم وملابسهم (الزّيّ المكتبيّ، الوشم، اللّحية، القرط الحَلَقيّ) مُفعم بالمعاني، المُستعارة، عمومًا، من لغة الأدب والسّينما الإباحيّين. الأشخاص المُصوّرون، على مختلف الإكسسوارات التي تزيّنهم، منخرطون في رقصة إغواء؛ رقصة مجمّدة، بالطّبع، متحجّرة بفعل رفرفة صمّام آلة التّصوير. أزيلت الشّالات السّبعة، فتتجلّى الشّخصيّة أمام المُصوّر مكشوفة، عارية.

لكن مَن هي الجهة التي يحاولون إغواءها؟ لا أحد، عمليًّا. يقفون وحدهم دائمًا. ينتصبون وحيدين في حديقة البحث عن الجنس. في شقّتهم – الملائمة لأبعاد شخص واحد ووحيد، والتي ترفض وجود أيّ غريب غازٍ – يقضون حياة من الوحدة. تشعّ من كلّ واحد فيهم قوّة مدوِّخة – قوّة ملطّفة أو غليظة، برّيّة أو حضاريّة – كامنة في صلب حياة الإنسان لوحده.

الحديقة

أخرج في أعقاب إغناتس لزيارة في حديقة الاستقلال في تل أبيب. العام هو العام 1999، وآنذاك قضى إغناتس أيّامًا وساعات، أسابيع وشهورًا وهو يوثّق الحديقة؛ في ذلك الحين كانت الحديقة، التي سأطلق عليها اسم "أطلانطس"، قارّة ضائعة، منزوعة عن المدينة المصبوبة إسمنتًا وفولاذًا مُغلّفًا. يصطلح تسميتها أيضًا سدوم أو جنّة عدن ضائعة، وربّما أيضًا سذاجة (لكن ما هو السّاذج في مكان رُسِّخ فيه عدد لا نهائيّ من النّزوات، والانحرافات، والأكاذيب والرّغبات القاتلة أيضًا). إنّه مكان يتجمهر فيه أشخاص يتشاركون سرًّا واحدًا، كأنّهم أعضاء في جمعيّة سرّيّة، أو قراصنة، يميّز واحدهم الآخر بسهولة في شارع يعجّ بالمارّة، أو في حانة مدينة ساحليّة. لكنّ هذا السّرّ يتبدّى سريعًا؛ في الواقع، فإنّهم يندفعون إلى الكشف عنه أمام فنّان التّصوير. ربّما ينكشف بهذه الطّريقة شبر من تلك الكينونة العميقة لدى كلّ قوم سدوم.

"كلّ شخص يصل إلى حديقة الاستقلال في تل أبيب، يضع روحه بين راحتيه،" كتبت قاضية المحكمة المركزيّة في قرار حكم في قضيّة سرقة حصلت في الحديقة؛ تعرف هي الأخرى شيئًا ما عن حديقة الاستقلال.

في كلّ مدينة كبيرة في العالم، تقريبًا، هناك مكان يشبه حديقة الاستقلال: في عمّان – المسرح الرّوماني، في لندن – حديقة "هامبستد هيث"، في نيويورك – حديقة "بروسبكت"، في إسطنبول – حديقة "فاتح"، في مدينة مكسيكو – الـ "كامينو فِردِه" (الطّريق الخضراء؛ وهو مكان يُشبه إلى حدّ مذهل حديقة الاستقلال في تل أبيب) وغيرها من الأماكن. بعد مرور سنوات قليلة على الصّور التي التقطها إغناتس في الحديقة، بدأت الحديقة تُهجَر. ترك قوم سدوم "أطلانطس" ووجدوا مكانًا لهم كسواسية (على ما يبدو) في كلّ شارع، في كلّ ساحة، في كلّ كورنيش في المدينة الكبيرة.

وثّق إغناتس الحديقة في أواخر أيّام أوجها، أي لحظة قبل أن تبدأ "أطلانطس" بالغرق. حينئذٍ، كانت الحديقة قطعة أرض كلسيّة فوق شاطئ البحر في تل أبيب، وكانت حديقة تعجّ بالنّاس – كانت مكانًا للّقاءات الجنسيّة والاجتماعيّة، وكانت أيضًا بالوعة تجذب إليها، بفعل القصور الذاتيّ، أشخاصًا لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه. تسنّى لي أنا أيضًا أن أرى "أطلانطس" في تلك اللّحظات، رمشة عين قبل غروبها.

إذًا، أخرج لزيارة في حديقة الاستقلال في أعقاب صور إغناتس. أجتاز الطّريق الرّئيسيّة، تلك المؤدّية من شارع "هَيَركون" إلى الأجمة التي تغطّي صخور الكلس. أتمهّل للحظات، وأعجب لقطعة الأرض البرّيّة تلك، للنّباتات الصّحراويّة في قلب المدينة الصّاخبة. أدخل الحديقة.

أمامي مقعد. يجلس عليه شخصان يتحدّثان: "جميع مشاكل الحبّ، وحتّى مشاكلي أنا، بشكل خاصّ مشاكلي أنا، يمكن حلّها بواسطة قرد،" يحاضر الواحد للآخر.

"لكن أيّ قرد؟"

"قرد قزم، قرد غضّ، قرد سامّ، بابون، مكاك. في الحقيقة، الأفضل هو أن تذهب وتقتني لنفسك قردين، لئلّا يكون هناك قرد وحيد".

"سوف أشتري، إذًا، قردًا، وقردًا آخر لذلك القرد".

ومن بين شجيرات الخبايا تعلو ضوضاء. شخص ثالث، غائب عن أعين الآخرين (مُنحرف؟ يحمل سكّينًا؟) يترّبص في الظّلال.

يمكن تصنيف الأشخاص الذين يزورون الحديقة بحسب علوم تصنيف طوّرتها مع السّنوات للتّمييز بين أبناء قوم سدوم. إنّه علم في غاية البساطة، وهو يخلو من العاطفيّة. لا يكترث العلم للملامح العينيّة للشّخصيّة، أو لنزوات الزّمن والموضة. من له باع في علم التّصنيف ذلك يصوّب أنظاره نحو ماهيّة أخرى، خارج محور الزّمن، خارج محور الأجيال، ماهيّة في غاية البساطة، رغم كونها غامضة.

أعود إلى الحديقة.

يقف إنسان على منصّة الإسمنت في مركز الحديقة، والأضواء مسلّطة نحوه. يقف هناك ويصيح بجمهور أصمّ وغير مبالٍ: "خلاص العالم يكون عبر نحيب الدّود، خلاص العالم يكون عبر نحيب الدّود." لا بدّ أنّه يقتبس سطرًا قرأه في كتاب ما، لكن لا أحد يجيبه؛ يُعنى الجمهور بمسائله الخاصّة. يرغو المُحاضر ويزبد، ولا يبالي للامبالاة الجمهور.

أنصت إلى شجيرات الخبايا. سكون. الشّخص الثّالث (مُنحرف؟ يحمل سكّينًا؟) يجلس ويتربّص صبورًا، أبكم، متوتّرًا.

سوف أعدّد، إذًا، بعض الأصناف التي يمكن مشاهدتها في حديقة الاستقلال (وتظهر جميعها باختلافات عديدة في صور إغناتس). لا نُعنى، كما ذكرنا، بوصف أشخاص حقيقيّين، ولا يعنينا بالتّأكيد البورتريه النّفسيّ، بل بالأصناف التي صقلتها من خلال العلوم التّصنيفيّة التي طوّرتها.

الموظّف – يصل إلى الحديقة مباشرةً بعد دوامه، ربّما في شركة تأمين أو في مصرف استثمارات. لا يزال محنّطًا في ثياب العمل: قميص منشّى، ربطة عنق، جاكيت. في يده حقيبة جلد مكتظّة بالوثائق المهمّة جدًّا (ما هو احتمال أن ينجح في التّشبّث بحقيبته حتّى خروجه من الحديقة؟ إنّه سؤال إحصائيّ معقّد، إذ يتعلّق الأمر بما لا نهاية من المتغيّرات: تجربته ومهارته، ظروف الإضاءة، قدر الشّفقة التي سوف ينجح أو لن ينجح في إثارتها في قلوب النّشّالين المتربّصين في الحديقة).

قد يكون الموظّف شخصًا رفيع المستوى، وقد يكون حتّى شخصًا مشهورًا، ينعم في العالم خارج "أطلانطس" – في المكتب، أو في القمرّ – بشلّال من الإطراءات وتعابير الاحترام من قبل الخاضعين له. تنحني الرّؤوس أمامه، إيماءات طقوسيّة موجّهة تجاهه في أروقة المكتب. لكن مكانته هذه معدومة القيمة في "أطلانطس". إنّه إنسان كسائر البشر. قد يكمن في ذلك قدر لا يُستهان به من الارتياح بالنّسبة للموظّف. فهو أيضًا، بقدر لا يقلّ عن أولئك الخاضعين له، عبد يخضع لآداب السّلطة. هو أيضًا يرغب، يهذي، في التّحرّر لبضع ساعات من ثِقَل مكانته.

العاشق الغيور – أثمن ممتلكات العاشق الغيور، وقد تكون الممتلَك الوحيد، هو الإحساس بالضّغينة. بقبقة من خيبة الأمل تفور دومًا في جسده. إنّها مصدر قوّته، لكنّها أيضًا السّرّ الذي من شأنه أن يقضي عليه في أيّ لحظة. مصدر خيبة الأمل لديه، لدى العاشق الغيور، هو رفض العالم استيفاء توقّعاته العاطفيّة (توقّعات غريبة، لا أساس لها، في مكان مثل "أطلانطس"). قد يأتي العاشق الغيور إلى الحديقة برفقة شريك، يكون عمومًا شخصيّةً متقلّبّة وغدّارة، تقدّم نفسها لأيّ إنسان، حتّى لأوضع سكّان "أطلانطس"، إلّا للعاشق الغيور. لكنّ العاشق الغيور لن يخرج من الحديقة دون إشباع رغباته. خلال ساعات، سوف يحظى بالوجبة الكاملة التي يحتاج إليها من وجع القلب والمرارة والشّكوى.

في حالات أخرى، قد يأتي العاشق الغيور إلى الحديقة لوحده. قد يختار آنذاك شريكًا للحظة، وفي تلك اللّحظة سوف يعلّق آماله عليه، يطالبه بسلسلة من الطّلبات، وسوف يخيب أمله، بالتّأكيد سيخيب أمله. الشّريك اللّحظي هو أيضًا متقلّب وغدّار، وسوف يوفّر للعاشق الغيور شلّالًا وافرًا من خيبات الأمل والضّغينة.

تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ الميلودراما الموصوفة أعلاه قد تستغرق دقائق أو ساعات معدودة. فالزّمن في "أطلانطس" مضغوط إلى حدّ مذهل. هناك قصص قد تستغرق في القارّة الأمّ سنوات طويلة، لكنّها في "أطلانطس" تتقلّص إلى جرعة زمن مركّزة ومرّة.

واعظ الأخلاق – طبعه قريب من طبع العاشق الغيور، لكنّ غيرته ترتدي زيًّا أكثر شموليّة. في حين يضمر العاشق الغيور الضّغينة تجاه شخص واحد فقط (العاشق الغدّار)، فإنّ واعظ الأخلاق يضمر الضّغينة تجاه العالم بأكمله. لن يكفّ عن التّذمّر: "انظر ماذا يفعل به؛ هذا ليس لطيفًا"، سوف يتنهّد عند رؤيته غريبين اثنين؛ "هؤلاء المثليّون، لا يرغبون إلّا بشيء واحد،" سوف يرثي. العاشق والواعظ هما توأما روح. لذلك فإنّهما، بطبيعة الحال، عدوّان لدودان. كلّ منهما غيور على ضغينته، ويطالب بأن تكون ملكه هو فقط، ويرفض أن يتشارك الآخر بها.

المحتال – عنكبوت متمرّس، ينسج شبكة لزجة ودبقة من الخيوط حول ضحيّته العديمة الحيلة. عمومًا، يكون المحتال ابنًا لسلالة طويلة من المحتالين، وهو بارع في جميع نقاط الضّعف البشريّة – الوحدة، خيبة الأمل، البلبلة، الضّجر، الشّكوك الميتافيزيقيّة؛ كلّ هذه معًا تشكّل الشّبكة اللّزجة التي يستخدمها لاصطياد ضحيّته. أكثر المحتالين تمرّسًا هم أولئك الذين لا يفعلون شيئًا: لا يتوجّهون لأيّ أحد ولا يحاولون غواية أيّ شخص. كلّ ما عليهم فعله هو الانتظار بصبر. سوف تقع الضّحيّة في شبكتهم من تلقاء ذاتها. المعاناة البشريّة، التي لا حدود لقوّتها، تجذب الضّحيّة إلى شبكة العنكبوت. سوف تطلب الضّحية من المحتال بعض السّلوى. لكنّ ثمن السّلوى هو لسعة.

المحتال هو كائن غير ناجع بماهيّته. في الكثير من الأحيان، يتطلّب الأمر مناورات معقّدة إلى حدّ بالغ، خليطًا دقيقًا من الإغراء، والإيهام، والعنف للحصول على فريسة تعسة نسبيًّا: محفظة وفيها بعض القطع النّقديّة البالية، كتاب جيب، ربّما مختارات لترجمات قصائد بول فرلان قد تبدو من انتفاخ جيب البنطال، كرزمة دسمة من الأوراق النّقدية، عبوة من نترات الأميل نفد تاريخ صلاحيّتها، أنبوب فارغ من مادّة مزلقة. أحيانًا يؤدّي المحتال حسنة مع ضحيّته. مقابل سعر زهيد، يطرد من قلبها محنة كبيرة.

العارض – لا يأتي العارض إلى الحديقة بحثًا عن الجنس. عمومًا، لا يهمّه أبدًا الارتباط بأيّ شخص سوى ذاته. ينشغل العارض بنفسه حصريًّا، وهو يأتي إلى الحديقة كي يُنعموا به النّظر. كلّ ليلة، يتغذّى العارض من نظرات الرّغبة التي يصوّبها نحوه الآخرون؛ يقف العارض بعيدًا عن الجمهور، وكثيرًا ما يكون نصفه الأعلى عاريًا، ويستعرض على الملأ عضلات الصّدر والبطن. يضع يده، كأنّ الأمر صدفة، خلف رأسه، كاشفًا عن شعر ناعم ينبثق عن إبطه.

من حين لآخر، يبدّل العارض وضعيّة جسده، كي يمنح الآخرين فرصة لتمحّص كلّ شبر وشبر على جسده. يفكّر جميع سكّان "أطلانطس" في العارض: من هو ذلك الرّجل، من أين أتى، إلى أين يذهب مع نهاية المساء (إلى غرفة صغيرة، يسكنها لوحده، او إلى منزل وثير لرجل غنيّ، يرعى العارض؟)

والعارض، بمَ يفكّر كلّ ليلة وهو وحيد؟ لا أحد يعرف.

العارض هو خطر بالغ لفنّان التّصوير. ظاهريًّا، يمكنه أن يعرض على المصوّر كلّ ما يحتاج إليه لإنتاج عمل فنّيّ كامل: جمال طبيعيّ، مرونة بهلوانيّة، رضوخ لا حدود له لطلبات المصوّر. ومع ذلك، إذا أذعن المصوّر للعارض، كما يريد الأخير أن يذعنوا له، فإنّ الفنّان يخسر استقلاليّته ويتحوّل إلى خادم العارض.

المُستمني – زيارة المُستمني في الحديقة لها هدف واحد ووحيد – إمتاع الذات. كما هي الحال مع العارض، فإنّه يقف بعيدًا عن الآخرين، لكن من جميع النّواحي الأخرى فإنّهما نقيضان تامّان. في حين يختار العارض زاوية له، يتسنّى للجميع أن يراه فيها من كلّ مكان، يجد المُستمني مكانًا يمكنه أن يرى منه دون أن يُرى. يقف هناك، خجولًا، وفي الآن ذاته محرّضًا (أفكّر في ديوجانس، المُستمني عند بوّابة المدينة، الذي يستهتر بنفاق سكّانها وفخفختهم). المُستمني يقظ لكلّ حركة وحركة. يحيك من كلّ انطباعاته فنتازيا معقّدة، ويستعيدها مرّة تلو الأخرى لأيّام وليالٍ عديدة.

يمسك المُستمني بمفاتيح بوّابة "أطلانطس"؛ في حنايا أفكاره تعيش جميع الشّخصيّات، كلّ أجسادهم، كلّ عقولهم. نظرات المُستمني الفاجرة هي التي تحوّل سكّان "أطلانطس" من أشخاص عاديّين – موظّفين مُتعبين، عشّاق خائبين، عابري سبيل عديمي الشّخصيّة – إلى شخصيّات مسرحيّة محاطة بهالة.

فنّان التّصوير هو، بطبيعة الحال، كبير المُستمنين.

وهناك أيضًا أنماط أخرى: السّاذج، المهرول نحو الجنس الجماعي، البائع (جسده أو أيّ بضاعة أخرى)، مثقّف الحديقة، وغيرها.

أعود وأصغي إلى الواعظ. "المشكلة الكُبرى للجنس البشريّ هي المشكلة النّفسيّة الفيزيقيّة. وصل الإنسان إلى القمر، واخترع ماكنات تُفكّر، ومع ذلك، ورغم ذلك كلّه، لم يفلح في إيجاد ذلك الوتر الذي يربط الجسد بالرّوح. ذلك الذي يظنّ أنّه يستطيع حلّ المشكلة النّفسيّة الفيزيقيّة، هنا والآن، ليتقدّم نحوي ليحظى بمصّة مجّانيّة." يطالب المُطالِب، لكنّ أحدًا لا يردّ. الجمهور منهمك في أموره.

تنبعث ضوضاء مجدّدًا، هذه المرّة بصوت أعلى، من بين شجيرات الخبايا. المُتربّص (منحرف؟ أيحمل سكّينًا؟) يجهّز المنصّة تحضيرًا لدراما هائلة.

الحديث عن "أطلانطس" كأنّها قارّة غرقت في الأعماق تُذكّرنا بوقت غابر – عندما كان قوم سدوم يجتمعون في ظلال أشجار النّخيل – وتخبّئ في داخلها خطرًا كبيرًا. رائحة نتنة من الحنين، من الرّثاء للسّنين الضّائعة، تنبعث من التّفكير بأيّام أخرى. شغف رجل الحنين بالماضي يعمي عينَيه. من جهة أخرى، يسعد الكثيرون لهذا التّغيير، لغرق "أطلانطس"، يحتفون بأيّام التّنوير هذه، التي وجد فيها قوم سدوم مكانهم كسواسية في المشط (على ما يبدو) في كلّ زاوية وشارع في المدينة الكبيرة.

حقيقة الأمر هي أنّ كليهما – رجل الحنين ورجل الحاضر – يكذبان. الدّواء لداء الحنين هو رؤية العالم على شكل أصناف، وهي طريقة تعلّمتها من بروست، ومن قبله من إمرسون. من ينجح في إنعام النّظر في مواظبة هذه الأصناف النّموذجيّة يكتشف بسرعة أنّ لا شيء ضائع، ولم يغرق أيّ شيء. كلّ ما كان في "أطلانطس"، كلّ من كان في "أطلانطس"، ما زال قائمًا أيضًا في المدينة المُعاصرة. كلّ ما نحن بحاجة إليه هو إنعام النّظر في ما هو حولنا، وتبنّي وجهة نظر صافية وخالية من الانفعاليّة.

صحيح أنّ بوسع توجّه التّصنيف هذا أنّ يؤدّي بنا إلى كآبة ثقيلة، إلى إرهاق من التّكرار الأبديّ – كلّ ما كان هو كلّ ما سوف يكون، ولا جديد تحت الشّمس – لكنّ التّوجّه الأكثر طبيعيّة برأيي هو السّرور إثر مواظبة هذه الأصناف النّموذجيّة، وإثر القوّة البالغة الكامنة في الولادة من جديد. لا يموت الجسد، لا تزهق الرّوح، يخلع اللّحم الجلد القديم، ليُنبت الزّمن جلدًا جديدًا بدلًا منه.

لقد ركّزت حتّى الآن في الأشخاص الذين يسكنون في "أطلانطس". لكنّهم لا يتسكّعون هناك وحدهم، لم يكونوا أبدًا لوحدهم هناك. الحديقة مُفعمة بالأشجار، والشّجيرات، والورود، والسّرخس، والحيوانات غير البشريّة، الكبيرة والصّغيرة، التي تجوب "أطلانطس" طيلة الوقت. كلّ هذه كانت هناك قبل الإنسان الأوّل، استوطنت القارّة قبله، وبطبيعة الحال سوف يستمرّ وجودها حتّى بعد رحيله. من ضمن الصّور المفضّلة لديّ في أعمال إغناتس هي تلك التي توثّق النّبات في حديقة الاستقلال: شجيرات الحبضيّات والقرنفل، أشجار النّخيل، والزّيتون، والأكاسيا، أزهار الرّبيع، والصّبّار الشّائك.

تتعدّى النّباتات كونها مجرّد ديكور للمسرح البشريّ في "أطلانطس"؛ إنّها جزء لا يتجزّأ من الدّراما التي تحصل على منصّة القارّة. يمتزج الأشخاص المُصوَّرون بالنّباتات – تطول اليدان لتصبحا غصنَين، تنمو من شعر الرّأس وشعر العانة أوراق شجر رقيقة، ويعكس الجهاز التّناسليّ في النّباتات الأعضاء التّناسليّة البشريّة. يبدو في الكثير من الصّور أنّ النّباتات تبلع المتجوّلين؛ يلتهم المنظر الأطفال.

ماذا يكمن خلف ذاك المزيج بين الإنسان والنّبات؟ ربّما الطّموح إلى الخروج عن نطاق الحدود البشريّة، إلى عبور الحدّ الفاصل بين الحيوان والنّبات، والتّحوّل، بقوّة الإرادة، بقوّة الرّغبة، إلى شيء ما ليس بشريًّا وليس نباتًا، شيء هجين، رجل-نبات.

فكرة أكثر غرابة: قد يكمن خلف هذا المزيج طموح آخر – الخروج عن طور الكرة الأرضيّة. النّباتات هي المولّدات الرّئيسيّة. إنّها الكائنات الوحيدة القادرة على امتصاص الطّاقة التي مصدرها من خارج الكرة الأرضيّة، من ضوء الشّمس والقمر، وتحويلها إلى مادّة تغذّي الحيوان والنّبات (عمليّة التّمثيل الضّوئيّ: خلال النّهار تتغذّى النّباتات من طاقة الشّمس الرّجوليّة، وفي اللّيل – من طاقة القمر النّسائيّة). تقف أرجل سكّان "أطلانطس"، إذًا، على صخور كلسيّة في قرنة معزولة من الكرة الأرضيّة، لكنّ رؤوسها تطمح إلى أعلى، إلى أضواء الكون الكبيرة.

يخطو شابّ يافع، واثق بنفسه، ربّما إلى حدّ مفرط، إلى داخل شجيرات الخبايا. يصوّب الجميع أنظارهم نحوه ويفهمون، يدركون جيّدًا، الخطأ الذي ارتكبه، لكنّ أحدًا لا يحذّره. تبتلع شجيرات الخبايا الشّاب الواثق بذكائه، بسرعته.

سكّين تُشهَر، صرخة تُطلَق؛ دم يسيل على شجيرات الخبايا، ويتلألأ على ضوء النّجوم.

مسرح الجريمة

في السّنوات اللّاحقة، انتقل إغناتس إلى تصوير الرّجال في منازلهم – رجال إسرائيليّون، فرنسيّون، ألمان، بولنديّون. يبدو لي جميع الرّجال الذين صوّرهم مجرمين ومحتالين. من بينهم، هكذا أتخيّلهم على الأقلّ، هناك قتلة منهجيّون، ونشّالون، وتجّار مخدّرات، ومبتزّون، ومبيّضو أموال، ومنتحلو شخصيّات.

لماذا يبدون لي مجرمين؟ تعابير الوجوه تشي بنوايا خبيثة. الأهمّ من ذلك، هو أنّهم يحيون لوحدهم في شقّة، في قلعة، مُعدّة لحماية سرّهم. لا يتحمّلون وجود شخص آخر (حتّى جلسة التّصوير هي حدث لحظيّ، خاطف). وظيفة فنّان التّصوير، حيال أولئك المجرمين، مزدوجة إذًا: الفنّان من ناحية هو كاهن الاعتراف، يستمع إلى اعترافات المجرم، يلمّع خطاياه، ومن ناحية أخرى فإنّه ضحيّة؛ لن يتردّد المجرم في استغلال ضعف المصوّر لإيقاعه في شباكه؛ يفرّ المصوّر من مسرح الجريمة في اللّحظة الأخيرة – يصوّر أثناء فراره.

المجرم معزول عن الواقع. لقد أقام منزله في مكان يعجّ بالناس، لكن في أعينه هو فإنّه يقف عند حافّة الحضارة المتهافتة. "لقد انتصرت على العالم،" يقول المجرم لذاته، يتذكّر آية من العهد الجديد (يوحنّا 23:15)، تعلّمها في صباه. في ضحكة المُجرم نسمع صدى سخريته من سائر البشريّة، من أولئك المُضطرّين إلى تحمّل رفقة الآخرين؛ في الآن ذاته، نسمع منه آهات الإشفاق على الذّات، وعلى وحدة هذه الذّات التي انتصرت على العالم. المصوّر هو شاهد وحيد، ربّما الشّاهد الأخير، على هذا النّصر المرير.

في حالة أخرى، في سلسلة الصّور التي يظهر فيها السّيد لاري، فإنّ الرّجل المصوَّر هو أشبه بابن آوى، يجول على بقايا حضارة متناثرة. السّيد لاري هو رجل يرغب بالعيش، بالانحطاط، ونراه مُصوّرًا في القاعات الفارغة لمتحف الكارنافالا، وهي صالة تعرض أفضل الأعمال الباريسيّة من القرن التاسع عشر. يعرض نفسه عاريًا، ومن خلفه الأعمال الفنّيّة المتهافتة. يعزف على قيثارة، متمتّعًا. "أنا أيضًا انتصرت على العالم"، يقول السّيد لاري لنفسه أثناء انتقاله من غرفة إلى غرفة في المتحف الخالي ليلًا.

شاطئ أشدود

القلب النّابض في أعمال إغناتس هو فيلم قصير، مدّته دقيقة ونصف، وهو تمرين أنتجه عندما كان طالبًا في مدرسة الفنون. يصوّر إغناتس والدته على شاطئ أشدود، المدينة التي ولد فيها. الأم غاوية، شفتاها مرسومتان بأحمر شفاه ناصع. تطارد الأمّ الكاميرا، الفنّان، بثمالة منتشية، في حين يبتعد الفنّان عنها. تقلّص الفجوة بجهد جهيد. تقف للحظة خاطفة أمام عدسة الكاميرا، لكنّ المصوّر يبتعد عنها مجدّدًا.

رقصة الإغواء هذه تأسر القلب وتكسر القلب. تحارب الأمّ كي تقترب من ابنها، تتوسّل إليه لئلّا يبتعد عنها، لكنّه يرفض، يُبقيها وحيدة على شاطئ بحر أشدود. النّهاية تتبدّى في أعمال إغناتس اللّاحقة: يبتعد الابن عن الأمّ، يتوه بين شجيرات "أطلانطس"، يزور منازل مجرمين ومحتالين عالميّين. دراما الهجر هذه محبوكة وملعوبة بأكملها في هذا الشّريط القصير. مع ذلك، ليس الهجر مطلقًا. وجهة نظر الأم – نسائيّة، أموميّة، خارجة عن نطاق عالم سدوم و"أطلانطس" – لا تتركه ولو للحظة. بعد مضيّ عقد من الزّمن، يلتقط إغناتس صورة هي عبارة عن خاتمة. نرى والدته ترتدي فستانًا أخضر، كاشفة عن وركيها، مُصوَّرة وهي تستند إلى شجرة في حديقة الاستقلال. لقاء مُتجدّد، متألّق، بين الابن – الذي أصبح فنّانًا بجعبته مغامرات وحقوق كثيرة – وبين الأمّ، التي يبدو أنّها لم تبتعد كثيرًا عن شاطئ بحر أشدود. الآن، تبدو الأمّ هادئة، متصالحة. لا تطارد ابنها. رغم سخرية القدر، تجد لنفسها قسطًا من الرّاحة على إحدى الأشجار البرّيّة في "أطلانطس".


الترجمة إلى العربيّة: شربل عبود


ظهر هذا النص في كتالوج-كتاب "شاؤول" الصادر عن متحف تل أبيب للفنون وهو يرافق المعرض الفرديّ لشاي إغناتس "غولدي" الذي يُعرض في المتحف حتى تشرين الأوّل القريب.



bottom of page